في دروب الصحافة، هناك من يكتب ليعيش، وهناك من يكتب ليحفر أثره في ذاكرة الناس، وصديقي قيس قرداغي كان من أولئك الذين عاشوا بالكلمة ومن أجلها. كتب باللغتين العربية والكردية، متنقلًا بين العوالم التي كوّنها قلمه، ناشرًا أفكاره بجرأة، ومؤمنًا بأن الحقيقة يجب أن تُقال، حتى لو كان الثمن غاليًا.
وُلد قيس قرداغي في مدينة كفري، حيث تجتمع الجبال الشامخة مع تاريخٍ طويلٍ من الصمود، لكن بغداد كانت محطته الأهم، حيث نشأ وترعرع، وسط صخب المدينة التي ألهمته، ووهبته مفرداتها، ليصبح صوتًا من أصواتها، يروي قصصها ويكتب عن همومها.
لكن قيس لم يكن مجرد صحفي يحمل القلم، بل كان أيضًا صاحب صوتٍ عذب، يجيد غناء المقامات العربية والتركمانية، متقنًا هذا الفن العريق الذي يحتاج إلى إحساس عالٍ وتمكن نادر. كان حين يغني، يسرد الحكايات بصوته كما يسردها بحروفه، وكان الغناء بالنسبة له امتدادًا للروح، ومساحةً أخرى للتعبير عن ذاته.
لكن كما الكثير من الصحفيين والفنانين، أخذته دروب الحياة إلى الغربة، حيث استقر في ألمانيا، تلك الأرض البعيدة التي تمنحك الأمان لكنها تأخذ منك شيئًا من روحك. هناك، واصل الكتابة، واستمر في حمل صوته، لكن الحنين ظلّ رفيقه، يطرق بابه كل يوم، يسأله عن بغداد، عن شوارعها التي حفظ ملامحها، وعن كفري التي حملها في قلبه أينما حلّ.
وفي لحظةٍ قاسية، خطف القدر قيس من بيننا، تاركًا وراءه كلمات لم تكتمل، وأغاني لم تكتمل، وأحلامًا لم تكتمل. لكنه لم يرحل حقًا… فالصوت الذي عاش بالكلمة والنغم، لا يموت. سيبقى اسمه حاضرًا في ذاكرة من عرفوه، وستبقى مقالاته وألحانه شاهدة على رحلة رجل لم يساوم على قناعاته، ولم يتخلَّ عن صوته حتى آخر لحظة.
وداعًا قيس… الغربة التي أنهكتك لم تأخذك منا، ستبقى حيًا في قلوبنا، وفي كل حرف كتبته، وفي كل نغمة غنيتها بروحك قبل صوتك.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP