تشهد تركيا منذ أسابيع تظاهرات شعبية
لافتة، تكشف عمق الأزمة السياسية المتصاعدة بين حزب العدالة والتنمية الحاكم
بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، وبين قوى المعارضة، وعلى رأسها حزب الشعب
الجمهوري. هذه الاحتجاجات لا تُقرأ فقط بوصفها رد فعل على اعتقال رئيس بلدية
إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بل باعتبارها إحدى حلقات الصراع الطويل حول مستقبل الحكم
وهوية الدولة التركية.
لم تكن المعارضة في تركيا بهذه القوة
منذ سنوات، فقد استطاعت في الشوطين الأهم من المواجهة السياسية أن تنتزع أكبر
بلديتين في البلاد: إسطنبول وأنقرة، وهو ما مثّل نقطة تحول محورية، وأعاد رسم
ملامح التوازن السياسي داخل البلاد. ومنذ ذلك الفوز الرمزي، تحولت المعارضة من
لاعب ثانوي إلى قوة سياسية فاعلة، تتقدم بخطوات واثقة نحو مراكز القرار.
في المقابل، عمل أردوغان على تدعيم
سلطته عبر الأدوات القانونية والمؤسساتية، حيث يرى كثيرون أن القضاء التركي بات
أقرب إلى جناح سياسي موالٍ للحكومة، يُستخدم في محاصرة الخصوم والتضييق عليهم.
ويأتي اعتقال إمام أوغلو، بتهم يعتبرها أنصاره ذات طابع سياسي، في هذا السياق الذي
يكرّس ما يُوصف بـ”الانقلاب المدني” على المؤسسات الديمقراطية.
الرئيس أردوغان رد على الاحتجاجات
قائلًا إن “تركيا لن ترضخ لإرهاب الشارع”، محملًا حزب الشعب الجمهوري مسؤولية
الفوضى والتوتر، ومتهمًا إياه بمحاولة تقويض الاستقرار. من جهته، دعا زعيم
المعارضة، أوزغور أوزيل، إلى استمرار المظاهرات حتى إطلاق سراح إمام أوغلو، مؤكداً
أن الشارع سيكون أداة للضغط السلمي حتى تحقيق التغيير السياسي المنشود.
وقد تخللت الاحتجاجات مواجهات في بعض
المدن، أسفرت عن اعتقال أكثر من 1100 شخص، بينهم نشطاء وصحفيون، ما أضفى على
المشهد طابعاً أكثر توتراً، في وقتٍ تشهد فيه الليرة التركية تراجعًا وتذبذباً في
الأسواق المالية.
المرحلة الحالية تمثل مفترق طرق حقيقي
لطرفي الصراع: طرف يسعى للبروز والتحول من المعارضة إلى السلطة عبر الشارع
والصناديق، وآخر يعمل على تقوية سلطاته وإدامتها، ولو عبر تضييق المساحات أمام
خصومه. وفي هذا السياق، لا تبدو التظاهرات سوى بداية لمعركة طويلة تُخاض في
البرلمان، وفي القضاء، وفي الساحات العامة.
تركيا، التي لطالما وُصفت بنموذج
“الديمقراطية المنضبطة”، قد تكون أمام واحدة من أكثر لحظاتها حساسية منذ عقود.
فإما أن تنجح قوى التغيير في إعادة التوازن إلى الحياة السياسية، أو أن تشهد
البلاد مزيداً من الانغلاق السياسي والاستقطاب، بما يحمله ذلك من مخاطر على
الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP