امريكا وايران مفاوضات سياسية على حافة التصعيد

سوران الداوودي
12:49 - 2025-04-10

تفيد الإشارات في الآونة الأخيرة الى اقتراب استئناف الحوار بين الولايات المتحدة وإيران، بوساطة سلطنة عُمان. وقد أكّد عباس عراقجي نائب وزير الخارجية الإيراني أن لقاءً غير مباشر رفيع المستوى سيُعقد بين الجانبين في مسقط قريبًا، معتبرًا ذلك “فرصة واختبارًا” وأن الكرة الآن في ملعب واشنطن. وفي تصريح متزامن، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس وزراء إسرائيل عن محادثات مباشرة عالية المستوى مع طهران بشأن ملفها النووي، بدون وسطاء، محذرًا من أنها «محاولة أخيرة» وأن فشلها سيعرّض إيران لـ«خطر كبير». هذه التطورات جاءت بعد تصعيد مستمر منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018 وإطلاقه حملة “الضغوط القصوى” على طهران.
كشفت مصادر إيرانية أن ثلاثة ملفات رئيسية ستكون مطروحة على طاولة التفاوض في عُمان
                   1-الملف النووي الإيراني – إعادة ضبط أنشطة طهران النووية ضمن قيود مقبولة .
                   2-الملف الإقليمي – دور إيران وعلاقتها بما يسمى “محور المقاومة” وحلفائها الإقليميين (كالفصائل المسلحة في المنطقة).
                   3-ملف الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة – برنامج التسليح الصاروخي الإيراني وقدراتها العسكرية المتطورة.
هذه الملفات ذات طابع سياسي وأمني بالدرجة الأولى وليست فنية أو اقتصادية صرفة، مما يعكس سعي واشنطن لبحث نفوذ إيران الإقليمي وقدراتها الدفاعية ضمن أي اتفاق قادم، وليس مجرد جوانب البرنامج النووي التقنية أو العقوبات الاقتصادية. وبحسب تصريحات الأكاديمي الإيراني حسن أحمديان (المطلع على دوائر صنع القرار بطهران)، فإن الولايات المتحدة تريد طرح هذه المحاور الثلاثة في المفاوضات، لكن إيران أوضحت في ردها المكتوب إلى الرئيس ترامب أنها لن تتفاوض إلا حول الملف النووي حصراً , طهران ترفض فتح ملفات دورها الإقليمي أو حلفائها أو منظومتها الصاروخية على طاولة التفاوض، مع تأكيدها الاستعداد للمساهمة في استقرار المنطقة دون تقديم تنازلات في هذه القضايا  وقد شدّد مصدر مقرب من الحرس الثوري على أن القضية الصاروخية وقوة إيران الدفاعية وعلاقاتها الإقليمية ليست جزءًا من أجندة إيران التفاوضية بأي شكل  ما يؤكد أن الطرفين يدخلان المباحثات المرتقبة بأولويات متباينة.
يرى محللون أن تحريك ملف التفاوض مع إيران بهذا الشكل يعكس وضوحًا أكبر في بعض جوانب سياسة واشنطن الخارجية واهتمامًا بالشأن الإقليمي يفوق ما كان يُشاع سابقًا عن توجهات إدارة ترامب. فخلال حملة ترامب الانتخابية وبداية ولايته، ساد انطباع أنه سيتبنى نهجًا انعزاليًا أو يركز على الصفقات الاقتصادية دون التورط عميقًا في تعقيدات الشرق الأوسط. لكن الإجراءات الأخيرة تظهر عكس ذلك؛ إذ تضع الإدارة الأمريكية قضايا أمن المنطقة في صميم أجندتها إلى جانب منع انتشار السلاح النووي الإيراني. يكشف جدول الأعمال المقترح للمفاوضات عن استراتيجية أمريكية شاملة تطالب إيران بتغييرات جوهرية في سلوكها الإقليمي وبرنامجها الصاروخي، وليس مجرد تعديلات تقنية على أنشطتها النووية. وبحسب الخبير الإيراني باقر صالحي، يسعى ترامب إلى تطبيق سياسة “الحد الأقصى من الحد الأقصى” في هذه المفاوضات، عبر تحقيق أقصى المكاسب في كل ملف المطالب الأمريكية الرئيسية تشمل تقليص البرنامج النووي الإيراني، وتقييد القدرات الصاروخية لطهران، والحصول على ضمانات لكبح دعم إيران لحلفائها الإقليميين– وجميعها مطالب ذات طبيعة سياسية وأمنية واضحة. هذا النهج يوضح أن الولايات المتحدة تضع استقرار الشرق الأوسط وأمن حلفائها في مرتبة متقدمة، خلافًا للانطباع السابق بأنها قد تتجاهل هذه الجوانب. وقد أشار صالحي أيضًا إلى بُعد إستراتيجي آخر للتحرك الأمريكي يتمثل في محاولة فصل إيران عن محورها الشرقي (روسيا والصين) عبر استقطابها سياسيًا ، مما يدل على أن واشنطن تنظر للصراع مع طهران ضمن إطار أوسع يتعلق بتوازنات القوى الدولية في المنطقة.
من الجانب الأمريكي، صدرت تلميحات رسمية تؤكد استمرار الالتزام الأمريكي تجاه قضايا الشرق الأوسط وعدم الانسحاب منها. على سبيل المثال، شدد وزير الخارجية مايك بومبيو في خطاب له بالقاهرة (يناير 2019) – عقب إعلان ترامب الأول عن انسحاب القوات من سوريا – على أن قرار الانسحاب ليس تغييرًا في المهمة الإستراتيجية للولايات المتحدة. وقال بومبيو بلهجة حازمة: “لن تتراجع أمريكا حتى ينتهي القتال ضد الإرهاب” في إشارة إلى أن واشنطن ستواصل العمل مع شركائها لهزيمة تنظيمي داعش والقاعدة وغيرهما. هذا التصريح جاء لطمأنة حلفاء واشنطن القلقين من تناقض المواقف، مؤكّدًا أن الإدارة الأمريكية لا تزال ملتزمة بدورها كضامن للأمن الإقليمي رغم رغبة ترامب المعلنة في تقليص الانخراط العسكري المباشر. وبذلك، يتضح أن التحرك نحو مفاوضات جديدة مع إيران ما هو إلا جزء من توجه أمريكي أوسع لحماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط عبر مزيج من الضغوط الدبلوماسية والأمنية – وليس انكفاءً أو عزلة عن قضايا المنطقة.
على النقيض من الوضوح النسبي الذي لمسناه في التعاطي الأمريكي مع ملف إيران، لا تزال سياسة إدارة ترامب تجاه ملفات إقليمية أخرى يكتنفها الغموض والتناقض. يتبدى هذا بوضوح في تعامل واشنطن مع الوضع في سوريا وعلاقاتها مع تركيا. فقد أطلق ترامب جملة من التصريحات المتضاربة حيال الوجود الأمريكي في سوريا خلال أواخر عام 2018 ومطلع 2019: إذ وعد في البداية بـانسحاب سريع وكامل للقوات الأمريكية من سوريا بالتنسيق مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لملء الفراغ الناجم عن ذلك ، ما فُسّر على أنه منح ضوء أخضر لتركيا للتوغل وضرب المقاتلين الكورد حلفاء واشنطن. لكن سرعان ما تناقضت هذه الوعود مع تطمينات صدرت عن أركان إدارته؛ حيث خرج مستشار الأمن القومي جون بولتون من إسرائيل ووزير الخارجية مايك بومبيو من العراق بتصريحات مغايرة تفيد بأن الانسحاب سيكون مشروطًا بضمان أمن الحلفاء الكورد (قوات سوريا الديمقراطية) وعدم عودة تهديد تنظيم داعش. هذا التخبط أظهر غياب خطة واضحة، وأدى لاستقالة وزير الدفاع جيم ماتيس آنذاك احتجاجًا على القرار المتسرع. في النهاية، تراجع ترامب جزئيًا ووافق على إبقاء قوة أمريكية محدودة في شرق سوريا لـ“حماية حقول النفط” وملاحقة فلول داعش، وهو ما أكد أن الانسحاب لم يكن تامًا ولا استراتيجياً كما أُعلن في البداية.
الأمر لا يقل تعقيدًا في سياسة واشنطن تجاه تركيا. فرغم كون أنقرة حليفًا إستراتيجيًا في الناتو، شهدت الشهور ذاتها رسائل أمريكية متناقضة تجاه القيادة التركية. فعلى إثر تفاهم ترامب وأردوغان هاتفيًا أواخر 2018 حول تولي تركيا مهمة القضاء على داعش في سوريا عقب الانسحاب الأمريكي، عاد ترامب ووجّه تحذيرًا علنيًا حادًا لأنقرة. فقد هدّد بتدمير الاقتصاد التركي بالكامل إذا قامت تركيا بأي عمل يعتبره “متجاوزًا للحدود” في سوريا وجاء هذا التهديد عبر تغريدة في يناير 2019 بعد أن كان قد صرّح قبلها بأيام أنه “لن يقف في طريق التدخل التركي” في شمال سوريا. هذه المواقف المتقلبة أربكت المشهد: فكيف يمكن لواشنطن أن تعتمد على أنقرة في ملء فراغ انسحابها من سوريا ثم تعود لتهددها بعقوبات مدمّرة؟ لاحقًا، حين أطلقت تركيا عمليتها العسكرية ضد الفصائل الكردية في أكتوبر 2019، فرضت إدارة ترامب عقوبات مؤقتة على أنقرة ثم رفعتها سريعًا بموجب اتفاق وقف إطلاق نار، وامتدح ترامب تعاون أردوغان واصفًا إياه بالشريك الهام. هكذا بدت العلاقة بين ترامب وأردوغان محكومة بتصريحات متضاربة تتأرجح بين التقارب والثناء من جهة، والوعيد بالاقتصاد والقوة من جهة أخرى، مما كرّس حالة الضبابية في سياسة واشنطن تجاه حليفٍ إقليميٍ محوري.
برغم الحراك الدبلوماسي المستجد تجاه إيران والتصريحات الأمريكية الصارمة في هذا الإطار، لا يبدو أن هناك تغييرًا إستراتيجيًا جذريًا في توجهات واشنطن الإقليمية حتى الآن – بل يمكن اعتباره إعادة تموضع تكتيكية ضمن إطار السياسة القائمة. فالإدارة الأمريكية الحالية تواصل الأهداف التقليدية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: منع إيران من امتلاك سلاح نووي وتقويض نفوذها المزعزع لاستقرار جيرانها، وضمان أمن حلفاء الولايات المتحدة (خاصة إسرائيل ودول الخليج)، والاستمرار في محاربة الجماعات الإرهابية. الجديد هو الأسلوب الخطابي الحازم والنهج التفاوضي المختلف الذي تتبناه إدارة ترامب – جامعا بين الضغوط القصوى والعروض المفاجئة للحوار – دون أن يصاحب ذلك حتى الآن تحولٌ في التحالفات أو إستراتيجية خروج واضحة من المنطقة. فلا تزال القوات الأمريكية منتشرة في مناطق معينة من سوريا والعراق، وتواصل واشنطن عملياتها ضد الإرهاب، كما تستمر في احتواء خصومها الإقليميين عبر العقوبات والتهديدات. وفي الوقت نفسه، لم تقدم الإدارة رؤية بديلة لنظام أمني جديد في الشرق الأوسط؛ إذ لم تتبلور مثلاً مبادرة شاملة لحل النزاعات في سوريا أو مواجهة التحديات مع تركيا تتجاوز الأسلوب الآني في إدارة الأزمات.
التصريحات المتضاربة من جانب ترامب وكبار مسؤولي إدارته قد تكون جزءًا من تكتيك تفاوضي وضغوط نفسية أكثر من كونها تغييرات حقيقية في المواقف. وفي هذا السياق، وصف كمال خرازي (رئيس المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية ومستشار المرشد الأعلى الإيراني) سلوك الإدارة الأمريكية بأنه “حرب نفسية وسياسة إملاء إما الحرب أو التفاوض” عبر الرسائل المتذبذبة التي يوجهها المسؤولون الأمريكيون. هذا التوصيف يُظهر أن طهران ترى التناقض في مواقف واشنطن أسلوبًا لزعزعة خصمها ودفعه لتقديم تنازلات، وليس بالضرورة تعبيرًا عن تخبط إستراتيجي حقيقي. كذلك، انتقاد بومبيو العلني لنهج الإدارة السابقة وتمسكه بمواصلة الدور الأمريكي التقليدي  يوحي بأن جوهر السياسة الأمريكية في المنطقة ثابت – سواء كان الأسلوب تصالحيًا كنهج أوباما أو تصادميًا كما في نهج ترامب.
  اخيرا يمكن القول إن التحرك الأمريكي نحو مفاوضات مع إيران، مع التركيز على الملفات الأمنية والسياسية، يدل على تصعيد مدروس لاستراتيجية قديمة أكثر مما يشير إلى تحول إستراتيجي غير مسبوق. فواشنطن تُكيّف أدواتها (بين الضغط والحوار) تبعًا للظروف، لكنها لم تغيّر غاياتها النهائية في الشرق الأوسط. الاهتمام الأمريكي بالشأن الإقليمي لم يتضاءل كما خشي البعض، بل أخذ أشكالًا جديدة أكثر حدّة ووضوحًا في بعض الساحات (مثل المواجهة مع إيران)، في حين بقي ملتبسًا ومتأرجحًا في ساحات أخرى كسوريا وتركيا. وهكذا، فإن السياسة الأمريكية الحالية تبدو أقرب إلى تغيرات تكتيكية منها إلى انقلاب إستراتيجي كامل على نهج الولايات المتحدة في المنطقة.

Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP