تشهد السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة تحوّلاً لافتاً نحو اعتماد نهج مرحلي في صناعة القرار وتنفيذ السياسات، قائم على التدرج وتقييم النتائج قبل الانتقال إلى خطوات جديدة. هذا النهج، الذي يمكن وصفه بـ”سياسة المراحل المتتابعة”، لا يعكس مجرد تغيير في الأسلوب، بل يستجيب لتعقيدات الواقع المحلي والدولي الذي لم تعد تنفع معه المقاربات الجذرية أو الشاملة التي كانت سائدة في فترات سابقة.
في السياسة الخارجية، لم تعد واشنطن تميل إلى فرض حلول كلية أو الانخراط المباشر في إدارة الأزمات كما كانت في العقود الماضية. بدلاً من ذلك، أصبحت تعتمد خطوات محسوبة، تسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف صغيرة ومحددة، تمهّد لتحقيق نتائج أكبر لاحقاً. في ملفات الشرق الأوسط، على سبيل المثال، يمكن ملاحظة هذا التدرج في تعاملها مع مسار التطبيع، أو في المفاوضات غير المباشرة مع إيران، حيث باتت تبني استراتيجياتها على مبدأ “التقدم مقابل الالتزام”، ما يعني أن كل خطوة تُقيَّم على حدة، ويتم على أساسها تحديد الخطوة التالية.
النهج ذاته يظهر جلياً في إدارة العلاقات الاقتصادية، خصوصاً مع القوى الكبرى مثل الصين. إذ تخلّت أمريكا عن فكرة التفاهمات الشاملة طويلة الأمد، لصالح مفاوضات قطاعية تتناول قضايا محددة، كحقوق الملكية أو سلاسل التوريد، وتتم مراجعتها وتعديلها وفقاً لمحصلة كل مرحلة. هذا التوجه يوفّر هامشاً أوسع للتكيف مع الظروف، ويقلل من مخاطر الفشل الكلي في حال تعثرت إحدى الجولات.
أما على الصعيد الداخلي، فقد أصبح النهج المرحلي أسلوباً واضحاً في معالجة الملفات الكبرى مثل الهجرة، والرعاية الصحية، والتغير المناخي. حيث تقوم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتقسيم مشاريعها إلى حزم صغيرة، ترتبط كل واحدة منها بنتائج سابقتها، وهو ما يسمح بتجاوز عقبات التشريع والانقسام الحزبي، لكنه أيضاً يعكس نوعاً من الحذر السياسي المرتبط بعدم المجازفة بخطط شاملة قد تُجهض قبل أن تبدأ.
هذا التوجه الجديد يمنح السياسة الأمريكية مرونة أكبر في التعامل مع التغيرات المتسارعة، سواء في الداخل أو على الساحة الدولية. ومع ذلك، يثير هذا النهج تساؤلات حول مدى قدرة صناع القرار على الحفاظ على رؤية استراتيجية موحدة طويلة الأمد. إذ أن التركيز على المكاسب المرحلية قد يؤدي إلى تجزئة الأهداف، وفقدان الترابط بين السياسات، مما يجعل المسارات مفتوحة أمام تعديلات دائمة لا تُفضي بالضرورة إلى استقرار سياسي أو اقتصادي.
في المجمل، تعكس السياسة المرحلية واقعاً جديداً في الإدارة الأمريكية، يقوم على التعامل مع الوقائع بقدر عالٍ من الواقعية والحذر. وبينما تُتيح هذه المقاربة مرونة ضرورية في زمن التحديات المعقدة، فإنها تتطلب في الوقت ذاته قدرة مضاعفة على التنسيق، ورؤية شاملة تُبقي على وحدة الاتجاه، حتى وسط تعدد الخطوات وتدرجها.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP