لم أكن أتصور أن يأتي اليوم الذي أكتب فيه كلمات كهذه، مفعمة بالذهول أكثر من الغضب، وبالخذلان أكثر من النقد. فعندما يُخطئ الأستاذ الذي نهلتُ من مدرسته وتعلمت من حِكمته، لا يكون الأمر هيناً، بل موجعاً ومربكاً، كأن خريطةً داخلية فقدت بوصلتها. لقد كان أستاذي، كامران قرداغي، واحداً من أولئك الذين استندتُ إلى أفكارهم وخبرتهم الإعلامية، واتخذت من ملاحظاتهم دليلاً في سنوات التكوين والعمل، حتى بات اسمه مرادفاً للحكمة والتأني والتوازن في نظري.
لكنني وقفت مشدوهاً أمام مقاله الأخير عن السليمانية والسياسة التي تُدار فيها. كان ما كتبه انحرافاً حاداً عن المسار الذي طالما سار فيه، وصدمة فكرية وأخلاقية لا يمكن المرور عليها مرور الكرام. لم تكن المشكلة في النقد، بل في التحوّل المفاجئ، في القفز السريع من ضفة إلى ضفة، من دون مقدمات منطقية، ومن دون الاعتراف بالمسافة التي تفصل بين ما كان يؤمن به وبين ما بات يروّج له.
لقد قال لي أستاذي ذات يوم إن التغيّرات المفاجئة في المواقف كثيراً ما تكون ناتجة عن نار هادئة، تطبخ بهدوء في الخفاء، حتى تنضج على حين غرة. لكنه اليوم، خالف قاعدته بنفسه. سقط فجأة في سردية لا تشبهه، وتحول من ناقد إلى مؤيد، من متوازن إلى منحاز، دون أن يمنحنا، نحن الذين مشينا على خطاه، فرصة لفهم دوافعه أو التفكير في تبريراته.
كامران قرداغي، الذي عرفناه يسارياً في شبابه، ثم شيوعياً، ثم قريباً من تركيا وأوزال، قبل أن ينتشله الراحل مام جلال ويضعه في موقع رفيع داخل رئاسة الجمهورية، لم يكن يوماً صوتاً عابراً في المشهد. بل كان ركناً معرفياً، ذا نبرة عقلانية. لهذا كان تحوّله الأخير مؤلماً. لم يعد الأمر اختلاف رأي، بل تخلياً عن إرث كامل من المواقف التي لطالما عُدّت مرجعاً.
اليوم، أكتب كلماتي هذه وفي داخلي مرارة. لم أعد أستطيع الصمت. ليس لأنني أرفض أن يغير الإنسان موقفه، ولكن لأنني أؤمن أن التغير الحقيقي يجب أن يكون نابعاً من مراجعة صادقة وشفافة، لا من انعطافة مباغتة لا تفسَّر ولا تبرَّر. لقد أرغمتني تلك اللحظة على التوقف، على إعادة النظر، وعلى قول كلمة وداع لرجل كنت أحسبه، وسيبقى بالنسبة لي، أستاذاً حتى وهو يُخطئ.
لكنها لحظة وداع فكري، لا لحظة خصومة. لحظة تأسف على مسار كان يمكن أن يبقى منسجماً مع تاريخه، لا مناقضاً له. وداعاً أستاذي، لا لأنني نسيت ما علّمتني، بل لأن ما كتبتَ اليوم يُجبرني أن أذكّرك بما كنت تؤمن به يوماً… قبل أن تنسى.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP