منذ إصدار أول صحيفة كردية “كردستان” في القاهرة
في 22 نيسان عام 1898،"والذي اصبح يوما للصحافة الكردية"، كانت للصحافة
الكردية دور تاريخي في تعزيز القيم النبيلة والدفاع عن الحقيقة والعدالة،واضحت منبراً
لتطلعات الشعب الكردي في الحرية والكرامة، وسعت إلى إيصال صوت المظلومين
والمضطهدين، مع الالتزام بالمهنية والمصداقية.
الصحافة الكردية كانت ولاتزال مرآة لتطلعات
الشعوب المضطهدة و الشعب الكردي وأهدافه
النبيلة في العيش الزهيد بحرية وإباء، فالكرد هم أصحاب قضية مشروعة وفق الحقائق
التاريخية والوثائق الدولية ويناضلون من أجل تقرير مصيرهم ولم ينبروا يوما
للاعتداء على حقوق شعوب اخرى ولم يقفوا بالضد من حقوق الاخرين ولم يحملوا يوما
راية الانانية وحب الذات حتى ولو على حساب الاخرين، بل كانوا ولايزال يؤكدون أن
الحصول على حقوقهم المشروعة يكتمل فقط
بنيل الشعوب الأخرى حريتهم وحقوقهم وان اي تهديد او اعتداء على حريتهم ينعكس سلبا
على حرية وحقوق الكرد.
بين المهنية والتحديات البنيوية
انعكاس تلك الستراتيجية في الصحافة الكردية
جعلتها في خانة الصحافة المسؤولة والهادفة والمهنية والمدافعة عن الحقيقة
والمصداقية ومنبرا للضمائر التي تنادي بالتمسك بالقيم النبيلة والانسانية
والابتعاد عن الجهل وثقافة الكراهية ونشر سموم التوحش وهذا وصف صادق لتجربتها في مراحل النضال ضد
الأنظمة القمعية، لكن التحدي الأبرز بدأ بعد 1991، حين أصبحت أمام اختبار جديد:
كيف تتحول من صحافة مقاومة إلى صحافة مساءلة؟ فمع تشكّل سلطة الأمر الواقع في
إقليم كردستان، تحوّل جزء من الصحافة إلى امتداد لخطابات الأحزاب، وفقد جزء آخر
قدرته على الاستقلال المالي والمهني، مع بروز تجارب فردية وصحافة اهلية لم تستطع
ان تكون مستقلة بصورة تامة، وكذلك غياب ماسسة نظام الحكم بسبب نمط التفرد والتسلط
عند احد اكبر الحزبين الحاكمين حال دون ولادة اعلام وطني في الاقليم كما هو الحال
في الدولة الاتحادية فالاعلام الوطني والاعلام المهني ركنان اساسيان لهوية السلطة
الرابعة فرغم
وجود طيف واسع من الصحف، والمواقع، والقنوات الإعلامية في إقليم كردستان، إلا أن
القليل منها استطاع أن يحقق معايير الصحافة المهنية من حيث التحقق، والحياد،
والاستقلال المالي والسياسي لعدة أسباب ابرزها تبعية بعض المؤسسات الإعلامية
للأحزاب أو الجهات النافذة وضعف التشريعات المتعلقة بالعمل الصحفي بين الحقوق
والمهام والمسؤوليات.وكذلك هشاشة الثقافة المؤسسية داخل المؤسسات الحكومية نفسها،
ما يجعلها غير معتادة على المساءلة العلنية او غير معنية بما تقوله الصحافة.
سلطة رابعة وسط سلطات غير مكتملة
تواجه الصحافة في كردستان العراق تحديات معقدة
في محاولتها أداء دورها كـ”سلطة رابعة”، لاسيما في ظل واقعٍ سياسي ومؤسسي لم تترسخ
فيه بعد استقلالية ومأسسة السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية) فحين
نصف الصحافة بـ”السلطة الرابعة”، نفترض ضمناً أن هناك ثلاث سلطات تعمل وفق الدستور
والقانون وباستقلالية نسبية، غير أن واقع كردستان يكشف غيرذلك اذ كيف يمكن للصحافة
أن تصبح السلطة الرابعة وتضطلع بدورها في تحقيق الحكم الرشيد في حين أن السلطات
الثلاث نفسها غير مُمأسسة ولا مستقلة ولا فعّالة و تعاني من اختلالات جوهرية؟
الصحافة ومآلات غياب الحكم الرشيد
في الفهم المعاصر للحكم الرشيد، تُعد الصحافة
المهنية المستقلة عنصراً أساسياً من عناصر المساءلة والشفافية، فالإعلام لا يكتفي
بنقل الأخبار، بل يساهم في تعزيز انتماء الفرد للوطن والامة ومراقبة أداء الحكومة،
وكشف الفساد، وتحفيز المشاركة المجتمعية. وهو بهذا المعنى لا يقف على هامش السلطة،
بل في موقع رقابي يضاهي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وربما يتفوق
عليها أحياناً في البيئات الهشة التي تعاني من اختلالات بنيوية.
الصحافة، في هذا الإطار، ليست مجرد ناقل سلبي
للواقع، بل هي أداة تفكيك للخطاب السلطوي وأداة بناء للوعي الجمعي، وتزداد أهمية
دورها كلما ضعفت الهياكل المؤسسية الرسمية، وبالتالي فان غياب
الحكم الرشيد في إقليم كردستان، وتحديداً غياب مأسسة السلطات الثلاث (التشريعية،
التنفيذية، القضائية) واستقلالها وفعاليتها، حال دون أن تتحقق الشروط الضرورية
لتحوّل الصحافة إلى سلطة رابعة حقيقية فمن الصعب للصحافة أن تراقب أداء مؤسسات
مفككة أو مرتهنة لسلطة غير رسمية؟ وكيف يمكن أن تحاسب سلطة تنفيذية لا تخضع فعلياً
للرقابة البرلمانية، أو قضاء لا يتمتع بضمانات الاستقلال؟
في غياب المؤسسات، تفقد
الصحافة حلفاءها الطبيعيين داخل منظومة الحكم، وتتحول إلى “صوت وحيد” في صحراء
القرار، أو تصبح فريسة سهلة في مرمى القوى النافذة. وهذا ما يؤدي إلى أحد أمرين:
إما خضوع الإعلام للسلطة الفعلية (بأي شكل من أشكال التبعية)، أو تحوّله إلى صوت معزول
بلا تأثير، يصرخ في الفراغ.
تصحيح مسار الحكم وموقع الصحافة
مع بدء الحملة الانتخابية للانتخابات النيابية
في الاقليم ومابعد اجرائها و بدء مفاوضات تشكيل الحكومة ،ركز الاتحاد الوطني في
برنامجه الانتخابي وستراتيجية مفاوضاته لهوية الحكومة الجديدة على السعي الجاد
بلاتراجع لتصحيح مسار الحكم والتوجه نحو حكم رشيد يليق بالمواطن وكيان الاقليم و
يعيد ثقة المجتمع الدولي،في هذا السياق يبرز سؤالان مهمان:
اولا: اين سيكون موقع الصحافة والحريات في مساع
تصحيح مسار الحكم ؟
ثانيا : كيف يمكن للصحافة أن تُسهم في تصحيح
مسار الحكم؟
ان التعامل مع هذين السؤالين هو في صلب واجبات
الحزبين الكرديين الرئيسين وخاصة الاتحاد الوطني الذي يرفع راية تصحيح مسار الحكم للعمل
من اجل اكتمال مراحل او مساع جعل الصحافة سلطة رابعة بقوانين وتشريعات وطنية
وعصرية اضافة الى بناء مؤسسات حقيقية اذ لا يمكن
لصحافة مهنية أن تؤدي دورها في ظل سلطات رمزية أو مُعطّلة و لابد من إعادة بناء
سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة وفعالة.
ومن خلال تشريع وتطبيق
قانون عصري للصحافة وحرية المعلومات ،بامكان الصحافة أن تراقب دون حق الوصول
للمعلومة، وتكشف الفساد مع حماية مصادرها.
وكذلك مأسسة العلاقة
بين الإعلام والمجتمع المدني ضروري كجبهة ضغط مشتركة تعمل على رفع جودة الحكم من
بوابة حرية التعبير والمحاسبة.دون ان نتجاهل مسؤوليات الصحافة في هذا المضمار
من حيث التحول من دورها التقليدي كناقل للخبر إلى دور استقصائي تحليلي يلامس قضايا
الحكم، الفساد، والعدالة.
تحديات عصر الانترنت
والذكاء الاصطناعي
الانتشار الواسع لوسائل
التواصل الاجتماعي والتقدم المتواصل للذكاء الاصطناعي، وانخفاض كلفة النشر الرقمي،كل
ذلك وضع الصحافة الكردية امام مسؤوليات وتحديات عديدة ينبغي لها مواكبتها بدقة
وحرص شديدين كي تحفاظ على هويتها ومسارها وديمومتها ففي عصر الإنترنت والذكاء
الاصطناعي، لم تعد الصحافة الكردية محصورة في جغرافيا كردستان، بل أصبحت فاعلاً
إعلامياً حاضراً في المشهد العالمي، وقادراً على التأثير وتشكيل الرأي العام خارج
حدود الإقليم.
كما أن الصحافة الدولية
باتت أكثر قدرة على مراقبة ما يجري في كردستان، وتحليل وقائعه في الوقت الحقيقي.
هذا التحول يفرض على
الصحافة الكردية أن تُوازن بين الخصوصية المحلية والمهنية العالمية، وأن تحافظ على
صدقيتها أمام جمهور مزدوج: داخلي يعرف التفاصيل، وخارجي يرصد السياسات.
الجزء الاساسي لهذه
المهام يقع بالطبع في صلب محاولات تصحيح مسار الحكم واسناد الصحافة المهنية
والوطنية بتشريعات وقوانين يتم تعديلها حسب الحاجة لمواكبة التطور السريع لتكنولوجيا
الاتصال والذكاء الاصطناعي خاصة ونرى الان بروز نوع جديد من “الإعلام” لا يعتمد
على المعايير المهنية، بل يستند إلى الإثارة، التضليل، وتأجيج العواطف، فيما يُعرف
بـ”الإعلام الشعبوي” أو “المحتوى الهابط”،وقد طغى هذا النوع من المحتوى على جزء
كبير من الساحة الإعلامية الكردية، حيث باتت بعض المنصات تُقدِّم نفسها كبديل عن
الصحافة المهنية، دون أن تخضع لأي ضوابط قانونية أو أخلاقية وبالتالي فان هذا الواقع
يُضعف من تأثير الصحافة الجادة، ويخلط في وعي الجمهور بين الرأي والمعلومة، وبين
التحليل والدعاية، والأسوأ من ذلك أن السلطات تتغاضى أحياناً عن هذا المحتوى
المتدني، وتُضيّق في المقابل على الصحافة الجادة، لأنها تُحرجها بالمعلومة الدقيقة
أو التحقيق المستقل.
لمواجهة هذا التحدي، لا
بد من أن يتبنى إقليم كردستان تعديلات مستمرة وعصرية على قانون الصحافة، تأخذ في
الاعتبار المعطيات الرقمية الجديدة، وتُميّز بوضوح بين الصحافة المهنية الخاضعة
للمساءلة، و”منصات الفوضى” التي تزرع الشك والتهويل والتشهير دون مرجعية أو مسؤولية.
كما يجب أن تشمل هذه
التعديلات، ضمانات حماية للصحفيين المهنيين،و آليات تنظيم واضحة لوسائل الإعلام
الرقمية، ومرجعيات نقابية مستقلة تكون الحكم بين الحرية والفوضى.
إصلاح الحكم مع تحرير
الصحافة
الصحافة الكردية اليوم
ليست مجرد مرآة للواقع، بل يمكن أن تكون محفزاً لتغييره لكن هذا لن يتحقق دون
مشروع سياسي ومؤسساتي أكبر يعيد ترتيب العلاقة بين السلطات، ويمنح الصحافة مكانها
الطبيعي في المعادلة كسلطة رابعة، لا سلطة مهمشة أو مستهدفة.
ومن أجل ذلك، لا بد من
أن يترافق إصلاح الحكم مع تحرير الصحافة، وأن يُنظر إليها لا كعدو للسلطة، بل
كضامن لمستقبلها، وبالتالي فان تعزيز دور الصحافة الكردية يتطلب التزاماً من
جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة والمجتمع المدني، لضمان حرية التعبير والوصول
إلى المعلومات، وتعزيز ثقافة الحوار والتسامح، بما يسهم في بناء مجتمع ديمقراطي
يحترم حقوق الإنسان ويعزز الحكم الرشيد.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP