في عالم يتأرجح بين القمع والحرية، يبرز الفن التشكيلي والرسم كأدوات قادرة على صنع التغيير بأسلوب ناعم، لكنه شديد التأثير. إنهما لا يخوضان المواجهة بالسلاح أو الشعارات المباشرة، بل بالحسّ الجمالي، والرمزية، والقدرة على إيقاظ الوعي وتحدّي الجهل السائد والظلم، ففي الأنظمة الديكتاتورية حيث تُقمع الكلمة ويُطارد الفكر الحر يصبح الفن ملاذًا ووسيلة مقاومة ناعمة، يبني عبرها الفنان وعياً جديداً ويغرس في النفوس روحاً مدنية ترفض الخضوع. في ظل الأنظمة الاستبدادية والديكتاتوريات، غالبًا ما يُنظر إلى الفن باعتباره ترفًا أو وسيلة للزينة، لكن الواقع أعمق بكثير. الفن التشكيلي والرسم هما من أعتى أدوات المقاومة الناعمة بل وربما من أكثرها تأثيرًا على المدى الطويل لأنهما يتسللان إلى الوعي واللاوعي يصنعان ذاكرة بصرية وجمالية ويطرحان الأسئلة في وجه الأجوبة المفروضة بالقوة. ولان الفن كمرآة للواقع وكاشف للمسكوت عنه فالفنان لا يرسم فقط ما تراه العين بل ما يخفيه الواقع ففي الأنظمة القمعية حيث تسود الرواية الواحدة وكتم الصوت المعارض يصبح الفن أداة لكشف الزيف والاستبدادية. نعم الفن التشكيلي لا يخاف من قول الحقيقة بخطوطه وألوانه وأفكاره، يملك القدرة على **التعبير عن المسكوت عنه** في زمن القمع حين تُكمم الأفواه وتُغلق الصحف، تبقى اللوحة تنطق. خذ مثلًا أعمال الرسامين الذين استخدموا الفن الواقعي في لوحاتهم ليوثّقوا الألم الانساني من عذابات المعتقلين حتى رمزية الموت في عيون الناس. لوحاتهم لم تحتاج إلى تعليق، لأنها تقول الحقيقة بطريقة لا يمكن للرقابة أن تمسك بها بسهولة، الرسم أداة وفن رائع وقوي لتشكيل الوعي الجمعي ومقاومة النسيان فالفن يخلق الذاكرة الجمعية عندما يُرسم وجه شهيد أو تُجسّد لوحة حدثًا قمعيًا، فإنها تبقى شاهدًا بصريًا يرفض أن يُنسى الرسم لا يخاطب العقل فقط بل يخترق المشاعر وهو بذلك يساهم في تكوين وعي جمعي. حين يرى الناس صورة تعبّر عن الظلم أو لوحة تجسّد كرامة الإنسان فإن هذا يحرّك شيئًا داخلهم. مثلًا في مصر، بعد ثورة 25 يناير، امتلأت الجدران في ميدان التحرير برسومات الغرافيتي التي حملت وجوه الشهداء وشعارات الثورة. لم تكن هذه فقط رسومات عادية بل كانت صوت الشعب على الجدران تفضح السلطة وتوثّق اللحظة وتحفظ ذاكرة الناس من النسيان. للفن مساحة حرية بديلة وسط السيطرة الغاشمة فالديكتاتوريات تحكم كل ما يُقال ويُكتب، لكنها أضعف في مواجهة ما يُرسم. الفن يتسلل حيث لا تصل الرصاصة ولا يمنع الحظر المعارض الفنية حتى تلك غير الرسمية أو المنشورة على وسائل التواصل بل تصبح فضاءات بديلة للنقاش. الفنان الفلسطيني على سبيل المثال، استخدم لوحاته لتجسيد الحياة اليومية تحت الاحتلال والقمع. لكنه لم يرسم فقط المعاناة، بل رسم الأمل والطفولة والمقاومة اليومية، كأنما يقول: "نحن هنا، وسنظل". الرسم والفن يفتح نوافذ ومساحات جديدة للتعبير والنقاش، حتى في ظل أنظمة ترفض كل ما هو خارج سيطرتها. عندما يقيم فنانون معارضًا مستقلة أو معارض في الشارع أو على وسائل التواصل الاجتماعي، فهم يخلقون مجتمعات مدنية صغيرة تنمو وتتوسع خارج سيطرة السلطة. تلك المساحات الفنية تتحول تدريجيًا إلى نواة لمجتمع مدني واعٍ، يرفض القمع وينادي بالتغيير لان الفن هو وسيلة شفافة لكسر ثقافة الأنظمة الاستبدادية التي تقوم على الخوف. والفن حين يُمارس بحرية يدرب الناس على تجاوز هذا الخوف الفن التجريبي، الغرافيتي، وحتى الفن المفاهيمي، كلّها أشكال تعبّر عن التمرّد على الرتابة المفروضة.. من خلال مزج الفن بالتوثيق والاحتجاج، تحدى الرسامون الانظمة اذ لابد من وجود أوقات للحياة وسط الظلام لذلك يبني الرسامون واقع بديل ليقولوا للناس ان ألاحلام ممكنة عكس ما تؤكده الديكتاتورية حيث تسعى إلى إقناع الناس أن لا بديل عن الواقع لكن الفنان يتحدى ذلك هو يُعيد تخيّل المجتمع، المدينة والإنسان، بمنظور أرقى وأكثر إنسانية فهو لا يكتفي بالنقد بل يبني بالألوان عالماً آخر ممكنًا.
من أخطر أدوات الديكتاتورية أنها تُربّي الخوف في قلوب الناس لكن الفن تحديدًا الفن المعاصر يعيد تدريب الناس على التعبير والتفكير بصوت عالٍ حتى الفنون التجريبية التي تبدو "غريبة"، تساهم في كسر الرتابة والانصياع. حيث يتم دمج الفن بالاحتجاج السياسي، صارت رمزًا عالميًا للتمرد السلمي على الاستبداد. أهم شيء في الفن أنه لا يكتفي بتصوير الواقع، بل يذهب أبعد فهو يتخيل واقعًا أفضل. الديكتاتورية تريد أن تقنع الناس أن هذا هو الواقع ولا بديل له أما الفن فيقول لا بل يمكن أن يكون العالم أجمل، أعدل، وأكثر حرية. وهذا الحلم هو بداية التغيير الحقيقي. لابد ان نصدق ونعمل ان الفن ليس ترفًا بل ضرورة سياسية وإنسانية الفن لغة مقاومة وأداة تحري ومساحة للحرية. ومن خلال الجمال والصورة، والرمز يُمكن للفنان أن يكون أخطر من ألف خطبة سياسية، لأنه يُدخل الفكر والتساؤل والتمرد إلى أماكن لا تصلها السياسة ولا الإعلام مباشرة في وجه القمع يرسم الفنان وفي وجه النسيان يعلّق لوحته على الجدار وفي وجه الديكتاتورية يصنع حلمًا صغيرًا يُمكن أن يكبر. الفن التشكيلي والرسم هما خط الدفاع الأول عن الذاكرة، والحرية، والكرامة الإنسانية. عندما يغيب البرلمان الحر وتُقمع الصحافة وتُمنع التظاهرات يبقى للفنان ريشته ولوحته ليرسم بها الواقع ويحلم بما ينبغي أن يكون.الفنان هو مؤرخ اللحظة وضمير المجتمع وصانع الذاكرة. وبهذا فإن الفن ليس فقط ضد القمع، بل هو لبنة أساسية في بناء مجتمع مدني قوي واعٍ لا يخضع بسهولة للديكتاتوريات، بل يرفضها حتى ولو بصمت الفرشاة.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP