في ربوع السليمانية

د.ظافر العاني
15:33 - 2025-05-09

لم يكن صديقي الوزير السابق يعرف لماذا أسحبه من يده وأدفعه نحو الكوستر المار من أمام فندق روتانا ، لكنه استجاب من دون جدال. علاقتي به تمتد إلى سنوات بعيدة، منذ كنا زملاء في كلية واحدة، ثم أصبحنا لاحقًا أساتذة في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد، قبل أن ننخرط سويًا في العمل السياسي.
كان ذلك قبل شهور قليلة، حين كنا في زيارة إلى السليمانية بدعوة كريمة من الشيخ نهرو الكسنزاني للتباحث حول بعض الأمور الملحّة.
في كل مدينة أزورها أو بلد عربي أقصده، أحرص على أن أقتنص وقتًا أتجول فيه بالحافلات العامة، لأكون أقرب إلى الناس البسطاء، أسمع قصصهم وأطلع على حياتهم من دون رتوش، وبعيدًا عن أي تعقيدات بروتوكولية. أريد أن أعرف طبيعة الحياة خارج قاعات الاجتماعات.
في السليمانية، كما في أربيل ودهوك، تجد الناس هناك على سجيتهم وكأن لوثة الحضارة الجديدة لم تمر بهم . صحيح أن الجيل الجديد لا يتقن العربية كما كان آباؤهم، وذلك بسبب القطيعة التي حدثت مع بغداد منذ عام 1991، لكننا نستطيع التفاهم معًا.
لم أجد في جيبي ألف الدينار ثمن مقعدينا، ولا صديقي كذلك، فلم نكن مستعدين لهذا الموقف فتطوّع كل الركاب لدفعها عنا، وعندما أقول كل فأنا أعنيها بالضبط .
سألني الشيخ الذي كان يجلس خلفي، وهو يرتدي الزي الكردي الجميل، عن وجهتنا. لم أعرف بماذا أجيب؛ فالمهم عندي أنني أتجول بلا هدف. اخترعت له قصة أننا نبحث عن فندق مناسب، فهذه أول ليلتنا في السليمانية. فأقسم أن نذهب معه إلى البيت، لأن الوقت كان وقت غداء، ثم بعد ذلك يأخذنا بنفسه ليدلّنا على فندق جيد.
تورّطنا في الأمر؛ فقد بدأ الرجل يقسم، والركاب الآخرون يلحّون بأن نكون ضيوفهم. كثير منهم كانوا من كبار السن ويتحدثون العربية بشكل جيد . لم نجد أمامنا سوى الاعتذار، وكان صديقي يلكزني في قدمي كلما لانت لهجتي بخصوص قبول الدعوة، مذكّرًا إياي بموعدنا القريب.
سألت الشيخ عن سر إتقانه للعربية، فقال إنه كان جنديًا متطوعًا وبلغ رتبة نائب ضابط، وقد خدم في الحلة وبغداد والديوانية. قال آخر: "وأنا كنت مفوضًا في بغداد"، وقالت امرأة مسنًة إنها كانت معلمة للرياضيات في عدد من مدارس بغداد.
من الحديث الودي الذي دار بيننا، أدركت مدى اشتياقهم للمدن التي قضوا فيها شبابهم، وللأيام الطيبة التي عاشوها هناك، وكيف أنهم ما زالوا حتى اليوم يتواصلون مع بعض أصدقائهم القدامى.
في كل محطة كان ينزل أحد الركاب، حتى لم يبقَ في النهاية سوى أنا وصديقي، فبقينا في أماكننا لنعود من حيث أتينا.
قال لي ضاحكاً: "والآن من أين سنأتي بالألف دينار؟"
قلت له، واثقًا من حدسي: " لاتقلق سنجد ألف كوردي يدفع بدلاً عنا."
صاح السائق من مكانه وهو يتابع نقاشنا : كروتكم واصلة كاكا .

Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP