تُعرف جبال قنديل بوعورتها الجغرافية
وقساوتها المناخية، وقد تحولت خلال العقود الماضية إلى معقل حصين لحزب العمال
الكردستاني، الذي اتخذ منها مركزًا عسكريًا وإعلاميًا وإداريًا. الجميع يدرك أن من
يتمركز في قنديل من الصعب جدًا اقتلاعه، ليس فقط بسبب الجغرافيا، بل أيضًا بفعل
الشبكات العسكرية والتنظيمية التي بنى عليها الحزب وجوده طوال سنوات الصراع.
واليوم، ومع تصاعد الأنباء عن ترك الحزب السلاح وحل نفسه، يُطرح سؤال خطير ومشروع:
من سيملأ الفراغ الذي سيتركه هذا الحزب في قنديل؟
ما لا يمكن تجاهله هو أن قنديل ليست
مجرد جبال شاهقة، بل مساحة استراتيجية تمتد على المثلث الحدودي بين العراق وإيران
وتركيا، وقد تكون مطمعًا لكل من يسعى إلى ملاذ آمن بعيدًا عن الرقابة التقليدية
للدول. وغياب حزب العمال الكردستاني عن هذه المساحة سيُخلِّف فراغًا كبيرًا، ليس
فقط من الناحية العسكرية، بل أيضًا من حيث السيطرة والردع والتوازن القائم حاليًا،
على هشاشته.
الخشية الكبرى تكمن في أن تستغل
التنظيمات الجهادية المتطرفة هذا الفراغ، وعلى رأسها تنظيم داعش، الذي لطالما أثبت
قدرته على استثمار الثغرات والفوضى لإعادة التمدد والانتشار. فالتضاريس الجبلية
الوعرة توفر بيئة مثالية للاختباء، وإعادة بناء القدرات، والتخطيط لهجمات تمتد إلى
الداخل العراقي وربما تتجاوز ذلك إلى الإقليم وتركيا وحتى العمق الإيراني. فتنظيم
داعش، رغم الضربات التي تلقاها، لا يزال يمتلك خلايا نائمة وخبرات قتالية عالية،
ويبحث عن موطئ قدم جديد يعيده إلى واجهة المشهد.
الفراغ في قنديل لن يكون شأنًا محليًا
فحسب. العراق سيكون أمام تحدٍّ جديد يهدد أمن مناطقه الشمالية، لا سيما نينوى
وكركوك، بينما تخشى إيران من تسلل الجماعات المسلحة إلى حدودها الغربية، وهي التي
دفعت ثمنًا كبيرًا لمواجهات سابقة مع داعش. أما تركيا، التي طالما نظرت إلى قنديل
كتهديد بسبب وجود العمال الكردستاني، فقد تجد نفسها أمام خطر أشد وأكثر تعقيدًا
إذا ما تسلل داعش أو جماعات مماثلة إلى هذه المنطقة. وإقليم كردستان بدوره سيكون
في مواجهة مباشرة مع تهديد جديد قادم من خاصرته الجبلية التي يصعب السيطرة عليها،
وقد يتسبب ذلك بزعزعة استقرار الإقليم الهش أصلًا.
ما لم تُوضع خطة دقيقة وسريعة لتأمين
قنديل، فإن الأمور قد تخرج عن السيطرة. المطلوب هو تنسيق عالٍ بين بغداد وأربيل،
بمشاركة فعلية من دول الجوار، لوضع ترتيبات أمنية تحول دون تسلل أي قوة متطرفة إلى
المنطقة. كما أن إشراك قوات محلية أو بيشمركة تابعة للإقليم، بإشراف مباشر من
الحكومة الاتحادية أو حتى بدعم دولي، قد يكون خطوة ضرورية لسد هذا الفراغ ومنع
تحوله إلى مصدر تهديد عابر للحدود.
الانسحاب الفوضوي لحزب العمال دون خطة
انتقالية سيكون بمثابة فتح الباب للفوضى والإرهاب. وإن لم تبادر الجهات المعنية
إلى إدارة هذا الملف بحكمة ومسؤولية، فقد تتحول قنديل إلى “تورابورا” جديدة في قلب
الشرق الأوسط، بجبالها التي تبتلع كل من يتجاهل تعقيداتها. فالفراغ في الجغرافيا
السياسية لا يبقى طويلًا، وإن لم يُملأ بالنظام والقانون، سيملؤه السلاح والعنف
والفوضى.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP