الإيمان، والعقل، والحياد في الشأن العام

سمير السراج
13:51 - 2025-07-01

في أزمنة التغيّر السريع والاضطراب الفكري الذي يعيشه عالمنا، تصبح الحاجة ملحّة لإعادة التفكير في العلاقة بين الدين والسياسة، بين العقيدة الفردية والمسؤولية العامة، بين ما نؤمن به وما يجب أن يحكم سلوكنا المشترك في المجتمع والدولة.
أنا لا أنطلق من موقع الخصومة مع الإيمان الديني، بل أرى فيه خيارًا روحيًا وفلسفيًا مشروعًا يمثّل عند كثيرين مصدرًا للسلام الداخلي والبوصلة الأخلاقية. لكن في المقابل، أؤمن أن العقيدة، مهما كان نوعها، يجب أن تظل ضمن الإطار الشخصي الحر، ولا تتحول إلى أداة لفرض الإرادة أو التحكم في الشأن العام.
حين يُقحم الإيمان أو الإلحاد في السياسة، يتحول كل خلاف إلى صراع هوية، ويُخشى حينها أن تفقد الدولة حيادها، والمجتمع تماسكه، والأفراد حريتهم. لهذا، أتبنّى رؤية ترى أن حماية الدين الحقيقي تكمن في إبعاده عن الصراعات السلطوية، تمامًا كما أن حماية غير المؤمن تكمن في عدم تحويل اللادينية إلى أداة هيمنة ثقافية أو ازدراء جماعي.
لقد لاحظت أن بعض المتدينين المتطرفين لا يرون الحقيقة إلا من زاويتهم، ويتعاملون مع المختلف كعدو أو ضالّ، وهذا أمر لا يليق بجوهر الإيمان الذي يقوم ـ نظريًا ـ على الرحمة والتواضع. لكن بالمقابل، هناك أيضًا من غير المتدينين، من يتبنّون نفس منطق الإقصاء والتعالي، فيرون في الدين مرضًا أو خرافة، ويرغبون في نفيه من الحياة العامة، بل من الوجود. هذا التشابه بين التطرفين يكشف أن التعصّب ليس حكرًا على دين أو فكر، بل هو نتاج عقلية لا تؤمن بالاختلاف أصلاً.
أنا لا أدافع عن الدين كمنظومة فوق النقد، ولا أحمله مسؤولية كل ما يحدث في مجتمعاتنا، لكنني أقول بوضوح: الدين، من حيث بنيته وتاريخه، لا يتماهى دائمًا مع المبادئ الديمقراطية التي تقوم على النسبية والتعددية، ولذلك فإن الدفاع عن الحرية الدينية لا يعني بالضرورة أنني أرى في الدين ضمانة للديمقراطية، بل أتبنّى هذه الحرية بوصفها شرطًا لحماية المجتمع من الانفجار، طالما أن الإيمان لا يزال يمثل واقعًا ثقافيًا واجتماعيًا واسعًا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله.
وقد آن الأوان لفهم أعمق للعلمانية، بعيدًا عن الكليشيهات. فالعلمانية الحقيقية ليست خصمًا للإيمان، بل وسيلة لضمان تساوي الجميع أمام القانون، دون تمييز على أساس العقيدة. إنها تعني ببساطة أن الشأن العام يُدار بالعقل المشترك، لا بالنصوص الخاصة، وأن المواطن يُعرَّف بما يفعله في مجتمعه، لا بما يؤمن به في قلبه.
هناك نماذج راديكالية من العلمانية تحوّلت إلى قمع، كما في تجربة تشاوشيسكو في رومانيا أو أتاتورك في تركيا، وهذه التجارب لا تُلزم أحدًا، بل تمثل تشوهًا لمبدأ الحياد نفسه. إن المطلوب اليوم ليس علمانية هجومية، بل علمانية ناعمة تحترم الدين وتحمي السياسة من سلطته.
في النهاية، أؤمن أن المستقبل ـ إذا نضج الوعي الإنساني ـ سيتجاوز الحاجة إلى “المقدّس” كسلطة أخلاقية أو تفسير للوجود، وسنصل ربما إلى ما يمكن تسميته بـعصر ما بعد الأديان. لكن حتى يحين ذلك، فإن الطريق الأمثل هو التعايش، والاحترام، وعدم فرض القناعات، أياً كانت، على الآخرين.

Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP