في مسارات النضال التحرري، تشكّل مسألة السلاح مركز الجدل الأخلاقي والسياسي والرمزي،فهو في زمن ما أداة كفاح لا غنى عنها، وفي زمن آخر عبء سياسي وأمني. غير أن التحوّل من السلاح إلى السياسة، ليس دائمًا فعلًا بسيطًا يُختصر بـ”تسليم السلاح”، بل هو قرار وجودي معقّد، يحمل في طياته أسئلة المصير والمستقبل.
من هذا المنطلق، تُعدّ الخطوة التي أعلن عنها “الكردستاني” اليوم، والمتمثلة في إتلاف أسلحتهم بإرادتهم الحرة، لحظة سياسية بامتياز، لا تُقاس فقط بما تُعلن، بل بما تمثله من انتقال في فلسفة النضال، من البندقية إلى الكلمة، ومن الكهوف إلى الساحات العامة.
**الفرق بين تسليم السلاح و”حرقه بإرادة ذاتية” جوهري. الأول غالبًا ما يأتي ضمن شروط تفرضها الدولة وتُترجَم كتنازل، أما الثاني، فهو فعل استباقي من موقع المبادرة، يستبطن نضجًا سياسيًا، ويؤكد على أن القوى التي خاضت الكفاح المسلح لم تفقد إيمانها بالقضية، بل اختارت طريقًا جديدًا لانتزاع الحقوق.
وقد عبّر بيان المجموعة بوضوح عن هذا التحوّل، حين قال:,,إننا نقوم، بإرادتنا الحرة، بإتلاف أسلحتنا… من أجل خوض نضال الحرية والديمقراطية والاشتراكية عن طريق السياسة الديمقراطية والسبل القانونية”.
إنه ليس إعلان هزيمة، بل إعلان نضج، وشجاعة الانتقال من ساحة إلى أخرى. ففي النضال التحرري، ليس التراجع عن خيار السلاح دومًا تنازلاً، بل قد يكون ذروة الوعي السياسي، حين يُصبح السلاح عائقًا أمام بناء الحركة الجماهيرية والانخراط المدني الأوسع.
(الاختبار الحقيقي: الدولة)
لكن هذه الخطوة، مهما كانت عظيمة النية والرمزية، تبقى خطوة نصف الطريق إن لم تجد في الجانب الآخر من يلتقطها. فما جدوى حرق السلاح إن كانت الدولة لا تعترف بحق الكرد في الهوية، واللغة، والتمثيل؟ وما جدوى التحوّل إلى الساحة السياسية إن كانت هذه الساحة مصادرة بقوانين الطوارئ وتضييق الحريات؟
إنها دعوة مفتوحة إلى الدولة التركية أن تثبت أنها قادرة على التعامل مع القضايا المعقّدة بمنطق السياسة لا الأمن، وبمنظور الدولة الديمقراطية لا الدولة القومية الأحادية.
(أوجلان حاضرٌ في الخلفية)
ليس عبثًا أن ترتبط هذه الخطوة بـ”نداء السلام والمجتمع الديمقراطي” الذي أطلقه عبدالله أوجلان، والذي يعيد تأكيد قناعته بأن:
“قوة السياسة والسلم المجتمعي هي البديل الحقيقي عن قوة السلاح”.
هنا نلمس أثر الفكر السياسي الذي ما زال يلعب دور البوصلة الأخلاقية والتنظيمية لدى قطاع واسع من الكرد، خصوصًا حين تتلاقى الإرادة القاعدية مع الاستراتيجية القيادية.
((بين حرق السلاح وحرق القضية))
المعادلة دقيقة،فالسلاح، رغم ما فيه من كلفة بشرية وسياسية، كان في لحظة ما التعبير الوحيد عن صرخة الهوية. لكن بقاءه دون أفق سياسي يُحوّله إلى عبء. والانتقال إلى السياسة دون ضمانات حقيقية، قد يتحوّل إلى حرقٍ للقضية لا للسلاح فقط.
ما شاهده العالم في كهف جاسنه ليس مجرّد خطوة رمزية، بل امتحان مزدوج: امتحان لنضج الحركة الكردية، وامتحان لصدقية الدولة التركية.
وإذا كانت هذه الخطوة تحمل الكثير من الأمل، فإن السؤال المطروح الآن: هل ستلتقط تركيا هذه الفرصة؟ أم أنها ستواصل السير في درب الإنكار، فترتدّ الأمور إلى مربع الدم؟
**بين “تسليم السلاح”، و”الاستسلام”، و”إتلاف السلاح بإرادة حرة”، هناك طريق رابع يُعبّر عن الكرامة السياسية. وقد اختارته مجموعة من الذين قاتلوا طويلًا، ليقولوا إنهم الآن يواصلون القتال، ولكن بلغة جديدة.
في هذا الزمن العاصف، قد تكون هذه الخطوة هي الأكثر شجاعة، لأنها تراهن على المستقبل لا على البندقية.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP