شهدت بغداد اربع قمم عربية على مدى أكثر من اربعة عقود، كانت كل واحدة منها مرآة لواقع عربي مختلف، واختبارا لمدى فاعلية العمل العربي المشترك. من قمة 1978 الى قمة 1990 التي سبقت العاصفة، وقمة 2012 بقيادة الرئيس جلاللطالباني، وقمة 2025، تتجلى مفارقة الزمن العربي، من لحظة الانقسام إلى لحظة الترميم، وربما الأمل.
عادت بغداد إلى الواجهة السياسية العربية مرة بعد أخرى، لكن كل عودة تأتي في سياق مختلف، وتحمل دلالات متغيرة عن سابقتها، فبين قمة 1978 التي عُقدت لرفض اتفاق كامب ديفيد، وقمة 1990 التي سبقت غزو الكويت، وقمة 2012 بقيادة الرئيس الراحل جلال طالباني، وصولا إلى قمة 2025، نقرأ مفارقة عميقة في موقع بغداد من الخارطة السياسية العربية: من مركز للتصعيد، إلى منصة للتقارب.
قمة بغداد 1978: بداية الانقسام
لقد انعقدت القمة التاسعة في بغداد في نوفمبر 1978 ردا على توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل ورغم غياب مصر، كانت القمة ذات نبرة حاسمة، واتخذت قرارا تاريخيًا بتجميد عضوية مصر في الجامعة العربية لاحقًا، ونقل مقر الجامعة إلى تونس، حينها بغداد كانت زعيمة لمحور الرفض العربي، وأرادت أن تقود تيارا قوميا صلبا ضد التطبيع، لكن القمة كانت بداية الانقسام العربي بشأن أسلوب التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي.
قمة بغداد 1990: نذير العاصفة
بعد 12 عاما، استضافت بغداد قمة استثنائية بدت في ظاهرها قمة للتضامن، لكنها كانت تعكس توترا غير معلن بين العراق وبعض الدول الخليجية ، وخلف الخطابات، كانت الأزمات المالية والسياسية والنفطية تتراكم، حتى انفجرت بعد شهرين فقط بغزو العراق للكويت وانهارت كل شعارات التضامن، لتدخل المنطقة مرحلة الصدمة والانقسام والتدويل.
لقد اجتمع القادة العرب في 28 مايو 1990،في قمة طارئة دعا إليها رئيس النظام العراقي في العاصمة بغداد، وسط أجواء مشحونة بالتوتر السياسي والقلق الاقتصادي، والتباعد الصامت بين الدول الخليجية والعراق.
لم يكن أحد يعلم أن هذه القمة ستكون آخر اختبار حقيقي للوحدة العربية قبل أن تنفجر المنطقة بأزمة غيرت وجهها لعقود: غزو الكويت وما تلاه من حرب الخليج الثانية.
رغم أن جدول القمة بدا تقليديا – دعم الانتفاضة الفلسطينية، مواجهة التهديدات الإسرائيلية، وتعزيز التعاون الاقتصادي العربي – فإن ما كان تحت الطاولة يفوق ما قيل على المنصة، فخلف الكلمات الرسمية، كانت الأزمات المالية بين العراق وبعض دول الخليج، وعلى رأسها الكويت والسعودية، تكبر بصمت، خلافات حول أسعار النفط، ومستحقات العراق من حربه مع إيران، وتحركات اقتصادية اعتبرها العراق استفزازا اضافة الى الغرور الذي اصاب صدام حسين الذي اراد ان يفرض نفسه كالزعيم العربي الاعلى والاقوى .
وبالطبع لم تخرج القمة بقرارات نوعية، لكنها كشفت حجم الشرخ داخل الصف العربي، وأظهرت أن لغة الخطابات لم تعد قادرة على إخفاء الانقسامات العميقة، وبعد أقل من شهرين على القمة، قام النظام العراقي بغزو الكويت، في مشهد صدم العالم وأدخل المنطقة في واحد من أسوأ صراعاتها الحديثة ، وبينما حملت كلمات القادة دعوات للوحدة ومواجهة إسرائيل، كانت الأرض تمهد لصدام عربي – عربي غير مسبوق.
قمة بغداد 2012: العراق يعود… وصوت الاعتدال مع “مام جلال”
بعد سنوات من الحروب والعزلة، عاد العراق في 2012 ليستضيف قمة عربية في 29 مارس 2012 بقيادة الرئيس مام جلال .
لقد كانت القمة سياسية ورمزية وتاريخية في آنٍ واحد،رمزية لأن العراق عاد ليجلس على طاولة العرب، وسياسية لأن الخطاب كان معتدلا، داعيا للحوار، ورافضا للتدخلات الأجنبية، في ذروة”الربيع العربي” ،وتاريخية بوجود رئيس غير عربي للقمة وقد تمت استضافة القمة في ظل تحديات أمنية وسياسية جسيمة غير أن حضور القادة العرب إلى “دار السلام” كان إشارة إلى رغبة في إعادة دمج العراق في محيطه العربي.
لقد ادار الرئيس مام جلال، صاحب الكاريزما السياسية والصوت المعتدل، القمة بروح التوافق والدعوة إلى الحوار والإصلاح و دعا إلى تجنب التدخلات الأجنبية، وتفعيل العمل العربي المشترك، مؤكدا أن القضية الفلسطينية تظل المحور.
وبذلك اصبحت القمة في 2012 قمة ترميم، وإعادة العراق إلى مكانه الطبيعي عربيا، بروح سياسية جديدة تجمع بين الواقعية والانفتاح و بروح الاعتدال والدعوة إلى الحوار.
وقد قدم الرئيس مام جلال نموذجا جديدا للقيادة: براغماتي، متوازن، وداعي إلى الشراكة لا التصعيد وخطابه تناول أبرز التحديات التي تواجه المنطقة، مؤكدا على أهمية الحوار والإصلاح والتضامن العربي.
ومن أبرز ما جاء في خطابه:
** العراق الجديد يحتضن القادة العرب بالمحبة والأخوة والتقدير.
**اعتبار التظاهرات الجماهيرية في عدد من الدول العربية خطوات نحو التغيير والإصلاح وإرساء أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد.
**ضرورة إيجاد مناخ ملائم للحوار بين الدول العربية لتفادي العنف والفوضى والتدخل الأجنبي، مؤكدًا أن القمة تُحمّل القادة مسؤولية تاريخية في هذا السياق.
**ضرورة الإسراع في تطوير وإصلاح منظومة العمل العربي المشترك وتفعيل آلياتها لمواجهة التحديات وتلبية مطالب الشعوب، خاصة الشباب العربي الطامح للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
** رغم الأحداث المتسارعة في المنطقة، أكد الرئيس مام جلال أن القضية الفلسطينية تظل القضية المركزية للعرب، مدينًا الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على حقوق الشعب الفلسطيني والأراضي المحتلة، ومشيدًا باتفاق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية.
**دعم وتعزيز الحريات والمواطنة : اكد الرئيس مام جلال في عطابه على اهمية تعزيز الحريات ودعم تطلعات الشباب وترسيخ روح المواطنة الحقة مع دعم حقوق المراة والعمل الصحفي ونبذ الاعلام المغرض.
***التأكيد على حقوق الإنسان: أبرز أهمية صون كرامة المواطن وضمان حقوقه في ظل عالم يؤكد على مبادئ حقوق الإنسان وحرياته، مع الإقرار المتزايد بدور منظمات المجتمع المدني.
هذا الخطاب عكس رؤية الرئيس مام جلال لعراق ديمقراطي فيدرالي موحد ومتعدد القوميات، يسعى للعب دور فاعل في محيطه العربي، ويؤكد على التزامه بالقضايا العربية الجوهرية.
أهمية الخطاب:
لقد عكست كلمة الرئيس مام جلال عودة العراق إلى دوره الفاعل في محيطه العربي بعد سنوات من العزلة، مؤكدا على استعداده للمساهمة في تعزيز العمل العربي المشترك وقد جاء الخطاب في وقت حساس حيث ان المنطقة كانت تمر بتغيرات جذرية، مما أبرز أهمية التضامن والوحدة بين الدول العربية لمواجهة التحديات المشتركة.
لذلك وعند التمعن في قرارات قمة بغداد 2012 نجد مواقف مهمة اتخذها القادة فيما يخص : دعم القضية الفلسطينية ودعم مساعي السلطة الفلسطينية لنيل الاعتراف الدولي بدولة فلسطين مع رفض السياسات الاستيطانية الإسرائيلية.
وعلى صعيد الموقف من الأزمة السورية وجهت القمة الدعوة إلى حل سياسي مع تأكيد دعم خطة المبعوث الأممي والعربي المشترك آنذاك، وضرورة وقف العنف واحترام تطلعات الشعب السوري.
وفيما يخص العراق اعربت القمة عن دعمها للعراق وتعزيز عودته للعمق العربي والتأكيد على أهمية تعزيز أمن العراق واستقراره وسيادته اضافة الى دعوة الدول العربية إلى توسيع التعاون الاقتصادي والسياسي مع بغداد.
واستطاع العراق ادخال بند الى البيان الختامي للقمة يؤكد رفض التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وخاصة من دول الجوار الإقليمي بموقف موحد.
القمة اكدت على ضرورة تطوير منظومة العمل العربي المشترك ومراجعة آلياته لتختتم توصياتها بطرح مقترحات لإصلاح جامعة الدول العربية.
قمة بغداد 2025: قمة التحوّل
لقد انعقدت القمة الـ(34) للعام 2025 في بغداد بحضور رؤساء وممثلي الدول الاعضاء وحضور الامين العام للامم المتحدة وممثلي الاتحاد الاوروبي و منظمة المرتمر الاسلاامي ومجلس التعاون الخليجي ورئيس الوزراء الاسباني وسط اهتمام اعلامي مهيب.
وشكلت القمة تحديا وفرصة في آنٍ معا:
التحدي يتمثل في:
خارطة عربية مليئة بالأزمات (فلسطين،سوريا، السودان، ليبيا، سوريا، لبنان،اليمن)،مع توترات اقتصادية واجتماعية في عدة دول وايضا عودة مشاريع النفوذ الإقليمي في المنطقة و ضعف ثقة الشعوب في النظام العربي المشترك.
وفرصة تتمثل في :
**جعل بغداد عاصمة التوازن العربي ومنصة محورية لإعادة بناء جسور التفاهم والتنسيق العربي، إذا نجحت في جمع الكلمة وتقديم مقاربة عملية لإعادة بناء العمل العربي المشترك وان استضافة القمة للمرة الرابعة تؤكد أن العراق بدأ يستعيد عافيته ودوره الإقليمي بعد عقود من الحروب والعزلة ، واثبات لحقيقة ان بغداد قادرة على لعب دور “الموازن”، نظراً لعلاقاتها مع مختلف المحاور (الخليجي، الإيراني، السوري، التركي).
**بعد سنوات من الانقسام العربي حول أزمات المنطقة، توفر القمة فرصة لطرح مبادرة عربية موحدة تجاه الملفات الحساسة مثل: ، القضية الفلسطينية ، الأزمة السورية، الأمن المائي و ملفات التطبيع والتقارب الإقليمي.
** إحياء ملف إصلاح الجامعة العربية ومؤسساتها، بما يجعلها أكثر استجابة لتحديات الشعوب، وليس فقط الحكومات.
خطاب مسؤول
وفي كلمته الافتتاحية خلال القمة تناول الرئيس العراقي د.عبد اللطيف جمال رشيد أبرز التحديات التي تواجه الأمة العربية، مؤكدًا على أهمية التضامن والعمل المشترك لمواجهتها، وبالامكان تلخيص الخطاب ضمن نقاط مهمة ابرزها :
فيما يتعلق بالتأكيد على وحدة الأمن العربي، شدد الرئيس رشيد على أن أمن المنطقة لا يمكن تجزئته، مؤكدا حرص العراق على دعم الأمن والاستقرار في الدول العربية الشقيقة، ورفض التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول.
وعلى صعيد الدعوة لحل الأزمات عبر الحوار، دعا إلى تسوية الخلافات بالوسائل السلمية والحوار المباشر أو عبر الوسطاء، معتبرا أن الحلول السياسية والحوار الوطني الشامل هما السبيل الوحيد لإنهاء الأزمات في المنطقة.
وبخصوص التمسك بالقضية الفلسطينية، جدد الرئيس العراقي موقف العراق الثابت بدعم حقوق الشعب الفلسطيني على كامل ترابه الوطني، ورفض جميع محاولات التهجير تحت أي ظرف أو مسمى.
ووسط تزايد التدخلات الخارجية ، اكد الرئيس العراقي على ضرورة احترام سيادة الدول وحسن الجوار، ورفض سياسة الإملاءات والتدخلات الخارجية واستخدام القوة.
وخير ماختم به كلمته هو التاكيد على أن الهدف الأسمى من القمة هو توحيد المواقف العربية في مواجهة التحديات المتزايدة، ومشددا على أهمية التركيز على المشتركات وتجاوز الخلافات من أجل وحدة الصف العربي.
هذا الخطاب وكذلك كلمة رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عكسا رؤية العراق لدور فاعل في تعزيز التضامن العربي ومواجهة التحديات الإقليمية والدولية من خلال الحوار والتعاون المشترك.
لن يقاس بعدد الحضور فقط
قمة بغداد 2025 ليست مجرد حدث دبلوماسي، بل قد لحظة استثنائية لإعادة صياغة النظام العربي على أسس جديدة: الحوار، التوازن، والتكامل.
نجاح القمة لن يقاس بعدد الحضور فقط، بل بمدى قدرتها على تحويل “بغداد” من رمز أزمة في 1990 إلى رمز أمل في 2025.
رئاسة كردية للقمة العربية ...رسائل ومعاني
مايلفت الانتباه هنا انه وفي خضم الحديث عن احتضان بغداد للقمم العربية لابد من الحديث عن مشهد سياسي غني بالرمزية وهو رئاسة الرئيس العراقي الكردي الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد، للقمة وهو الرئيس الكردي الثاني للقمة في تاريخ العراق الحديث،بعد الرئيس الراحل مام جلال .
تكرار هذا الحدث يعيد إلى الأذهان قمة بغداد 2012، التي ترأسها الرئيس الراحل مام جلال، أول رئيس كردي منتخب ديمقراطيا في العراق، ورمز التوازن والانفتاح، لكن رئاسة كردية لقمة عربية ليست تفصيلاً بروتوكوليا، بل تعبيرٌ عميق عن تحولات الهوية السياسية للعراق، ورسائل متجددة في السياق العربي.
رسالة عراقية: وحدة التعددية
أن يترأس رئيس كردي القمة العربية من بغداد هو إعلان سياسي قوي بأن العراق الجديد قائم على التعددية الوطنية، لا على الاحتكار الطائفي أو القومي.
لقد مثل الرئيس مام جلال هذه الفكرة بعمق، إذ كان كرديا بقلب عراقي وعقل كردي والدكتورعبد اللطيف رشيد اليوم يسير على ذات النهج، وهذا تاكيد أن الانتماء للعراق لا يتناقض مع التواصل مع الفضاء العربي.
رسالة عربية: انفتاح على الهويات المتنوعة
ترؤس رئيس كردي للقمة من الرئيس مام جلال الى الرئيس رشيد اثبات ان الهوية العربية ليست حكرا على القومية، بل مشروع سياسي وحضاري يضم شعوبا متعددة الثقافات وتذكير للعرب بأن الوحدة لا تعني التطابق، بل التفاهم والتعايش وهذه الخطوة دعوة للاعتراف بالمكونات غير العربية في الدول العربية، كشركاء في البناء، لا كاستثناءات.
الرئيسان مام جلال ورشيد، صديقان ورفيقا درب، وينتميان إلى مدرسة سياسية واحدة ترفض التطرف، وتؤمن بالحوار والاعتدال ،في 2012، دعا الرئيس مام جلال إلى “عراق ديمقراطي عربي المنتمى، متعدد في واقعه، موحد في طموحه واتحادي في الادارة”، واليوم، يعيد الرئيس رشيد نفس النهج مع تقديم العراق كنقطة توازن في المنطقة، لا كطرف في محاورها.
في قمة 1990، بغداد كانت تعكس انغلاقا سياسيا وتمركزا قوميا متشددا ولكن في 2012 و2025، فالعاصمة تنفتح على العرب برؤية جامعة، يعبّر عنها رئيس كردي يؤمن بالعروبة السياسية لا الشعاراتية.
من الرئيس مام جلال إلى الرئيس رشيد، ترسل بغداد رسالة حضارية مفادها: العراق لن يكون قويا إلا بتعددية تحترم الجميع، والعرب لن ينهضوا إلا إذا وسّعوا مفهوم “العروبة” ليشمل التنوع لا الإقصاء.
قمة بغداد 2025 ليست فقط لحظة سياسية، بل لحظة وعي عربي جديد، وقد يكون وجه كردي هو أفضل من يقدمه.
من 1978 إلى 2025، كانت بغداد مرآة لمراحل الانقسام، التوتر،الانقسام، العودة، والأمل. هذه القمم الأربع ترسم قصة الوجدان العربي السياسي، في تقلباته من الحدة إلى الواقعية.
وإذا كان الماضي يحمل دروسًا قاسية، فإن المستقبل قد يحمل فرصة، إذا ما أحسنت بغداد – والعرب – اغتنامها.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP