أزمة ثقة أم منهج سلطوي؟

محمد شيخ عثمان
20:36 - 2025-07-10

في تطور خطير وغير مسبوق، تتعامل الحكومة الاتحادية في بغداد مع رواتب موظفي إقليم كردستان بمنطق العقاب الجماعي، لا بمنطق الدولة الراعية والمتوازنة،فمنذ أشهر، يتكرر مشهد قطع الرواتب أو التلكؤ في إرسالها ضمن إجراءات لا يمكن تفسيرها سوى على أنها سياسات عقابية ممنهجة، تستهدف الإقليم ككيان سياسي وجغرافي، ولكنها تضرب صميم حياة الناس وكرامتهم.

مع اعترافنا بتنصل اطراف في الاقليم من الالتزامات ايضا لكن الأخطر من ذلك هو لامبالاة مجلس الوزراء حيال هذه الأزمة الإنسانية والدستورية، وكأن شعب كردستان لا يُحتسب من مواطني هذا البلد، ولا تُلزم الدولة بضمان حقوقه. والأسئلة التي تفرض نفسها هنا: هل نحن أمام أزمة ثقة عميقة بين بغداد وأربيل؟ أم أن ما يجري هو تجلٍّ لنهج تسلّطي يتجاوز الفيدرالية والدستور؟

قطع الرواتب أو تعليقها لا يستند إلى أي نص دستوري واضح، بل يتقاطع مع مبادئ العدالة والمساواة المنصوص عليها في الدستور العراقي وإن حجة الحكومة المركزية – ممثلة بوزيرة المالية ورئيس الوزراء – بوجود “مخاوف قانونية” أو “مساءلات محتملة” في حال إرسال الرواتب، لا تصمد أمام الحقيقة القانونية: فالمحكمة الاتحادية أقرّت بحق الموظفين في الرواتب، كما أن الدستور لا يجيز معاقبة المواطنين على خلفية الخلافات السياسية بين الحكومات.
كما أن آلية الدائن والمديونية متاحة قانونيًا، ويمكن بموجبها إرسال الرواتب كقروض أو دفعات مالية مشروطة، ريثما يُتوصل إلى اتفاق شامل وملزم حول إدارة الموارد والنفط. 
لكن يبدو أن الإرادة السياسية في بغداد تحبذ الاستخدام الوظيفي للأزمات كورقة ضغط ومساومة.

لقد تجاوزت هذه الإجراءات حدود السياسة والاقتصاد، لتضرب في العمق مفهوم التعايش العربي الكردي الذي بني على نضال مشترك وشراكة تاريخية
إن تحوّل هذا التعايش إلى تعايش اضطراري مفروض بالقوة، لا الإرادة، لا يُنذر فقط بتآكل الثقة، بل بـ تقويض وحدة الدولة من الداخل.

والخطير في المشهد هو الصمت الإعلامي والثقافي والاجتماعي العربي داخل العراق، إذ تمر هذه السياسات دون إدانة واضحة من النخب أو المثقفين أو منظمات المجتمع المدني، وكأن المسألة تخص شعبًا آخر لا يمت لهم بصلة و الحقيقة أن كل ظلم يقع على شعب كردستان اليوم، ستدفع ثمنه بقية الشعوب العراقية غدًا، لأن اللامبالاة في استخدام تلك الاجراءات العقابية بحق مكون اساسي للبلد وتبريرها  امر لايبشر بالخير و هو تمهيد لعودة المركزية القمعية غدًا، ولن يخرج منها أحد سالمًا.

جراح لا تمحوها الاتفاقات
حتى لو نجح الطرفان، بغداد وأربيل، في التوصل إلى حل جذري ومستدام بشأن ملف الرواتب والميزانية، فإن الأثر النفسي والسياسي الذي تركته الإجراءات العقابية التي انتهجتها حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لن يُمحى بسهولة من ذاكرة ووجدان شعب كردستان.
لقد ولّدت هذه السياسات شعورًا عميقًا بالخذلان والتمييز، ورسّخت الانطباع بأن الحكومة الاتحادية تتعامل مع الإقليم لا كشريك دستوري، بل كمُدان ينبغي معاقبته عند كل منعطف سياسي.

لذلك، فإن تجاوز هذه الأزمة لا يمكن أن يتحقق بالحلول الفنية والإجرائية وحدها، بل يستدعي من السيد السوداني القيام بخطوات سياسية وإنسانية ملموسة، تعكس نية حقيقية في ردم فجوة الثقة، ومحو آثار المحن التي لحقت بالمواطنين، وتقديم رسالة صريحة لشعب كردستان بأنهم ليسوا أداة في صراعات النفوذ أو المزايدات القانونية.

إن استعادة العلاقة بين المركز والإقليم على أسس العدالة والشراكة لا تتحقق فقط بتسوية الرواتب أو الاتفاقات المؤقتة، بل تبدأ من اعتراف الحكومة بخطأ السياسات العقابية، وتحملها مسؤولية ما نتج عنها من أضرار نفسية واجتماعية، والعمل على بناء مسار جديد يقوم على المساواة والاحترام المتبادل ضمن الإطار الدستوري.

(( العراق أولًا… بالفيدرالية لا بالإقصاء))
ما يجري اليوم هو أشبه بـ مسمار يُدق في نعش العلاقة النضالية بين العرب والكرد، وقلب لمفهوم الأخوة من شراكة سياسية إلى حالة اضطرارية تفرضها الجغرافيا والمصالح. وإذا لم تتم مراجعة هذا المسار الخطير، فإننا لا نقف فقط على حافة أزمة مالية، بل على عتبة انهيار الثقة بين مكونات العراق، وهو ما لا يخدم وحدة البلد ولا استقراره، بل يدفع به نحو مزيد من التفكك والصراعات العبثية.

Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP