تقديم

د. خليل فضل عثمان
09:31 - 2025-05-28

تقديم
د. خليل فضل عثمان*
يأخذنا حسن الجنابي في كتابه الذي بين يدينا إلى عالم السياسة الخارجية العراقية. بعدما خاض بنا صاحب "الدولة العقيمة" في غياهب دولة ما بعد 2003 المتخمة بالأعطاب، يخوض بنا هذه المرة عميقًا في عالم الدبلوماسية العراقية منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة. وعالم السياسة الخارجية العراقية هو عالم، شأن السياسة العراقية عموماً، عاصفٌ، متقلّبٌ، يضجُّ بالآمال، ويفورُ بالخيبات. ولا يقتصر هذا الكتاب على تقديم سردية لتطوّر الدبلوماسية العراقية وتقلّباتها، وإنما تأتي فصوله مشفوعةً بقدرٍ وافرٍ من التحليل الذي يضفي عليها عمقاً يتجاوز سطحيّة السرد المحض، والذي، أي السرد، رغم ما قد يحقّقه للقارئ من متعة يظل مقيماً لا يريم عند تخوم الأحداث، أي وقائعها، ولا يدخل في قلبها. والتحليل فيه، إذا ما استعرنا من الصوفية بعض مفرداتها، كشفٌ لما وراء ظواهر الأمور وغوصٌ في بواطنها.، فالكشف، كما يقول العلامة ابن خلدون، هو "كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالمَ من أمر الله". وهكذا، يبحر بنا الجنابي، حاملاً خزانة علمه ومعرفته وأسراره، نحو "عوالمَ من أمر الله" في مسالك السياسة الخارجية العراقية ودروبها وخباياها.
ما يسجّله المؤلف بين دفتي هذا الكتاب عن الدبلوماسية العراقية في حقبة ما بعد 2003 هو في جانب كبير منه شهادة حيّة. وسجلّه في العمل السياسي، في المعارضة وأجهزة الدولة على حدٍّ سواء، يؤهّله أحسن تأهيل للإدلاء بهذه الشهادة. فهو بعدما أفنى نحو ثلاثة عقود من عمره في مقارعة كابوس الدكتاتورية، أمضى معظمها في المنفى، عاد إلى العراق بعد سقوط الصنم في "ساحة الفردوس" في بغداد ليخوض غمار العمل الدبلوماسي والحكومي، خبيرًا دوليًا في شؤون المياه، ثم ممثلًا للعراق في عدة محافل دولية، ومنها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، وسفيراً في وزارة الخارجية، ووزيراً للموارد المائية. وهكذا تأتي الفصول التي يتناول فيها الدبلوماسية العراقية طافحة بالمشاهدات عن أحداثٍ كان شاهداً حياً على وقائعها أو لاعباً فيها، وعن شخصياتٍ احتكَّ بها وخَبِرَها عن كثب، وعرف عنها بعضاً من أسرارها.
وإذ يتناول المؤلف في معرض كتابه شخصيّات عمل معها بعد عودته إلى العراق عام 2003 من منفاه، فإنه يقيّم أداء هذه الشخصيات في أروقة السلطة والقرار، وخصوصاً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي، وآلياتها وعملية صنع القرار فيها. ولا مناص من النقد في معترك التقييم. فنجده يسجّل على هذه الشخصيات وأدائها ومسلكياتها ملاحظاته النقدية، سلباً وإيجاباً، ولكنه إذ لا يتورّع عن توظيف عدّته وأدواته النقدية، فإنه في الوقت ذاته لا يغادر الموضوعية، فيترفع عن تصفيه الحسابات والتجريح والافتئات والتجنّي. ويتبدّى حرصه على الإنصاف في مواضعَ عديدةٍ من الكتاب، نجده فيها يقدم إيضاحاتٍ حول بعض القضايا والملفات والأحداث تستوي على نصاب الالتزام بالأمانة. فكثيرة هي المقاطع التوضيحية التي تطالع القارئ في الكتاب والتي يصدّرها بعبارة "وللأمانة". والأمانة ليست مبتدأ الكلام فحسب، وإنما هي معقد النوايا وهو يطفق يخبرنا عن الخبر.
ولا غرو أن يكون الكاتب مأخوذًا بالعراق حدّ التماهي. يكتب بحرقة عن العراق الذي استجار من نيران القمع والكبت والتسلّط والاستبداد وعسف السلطة والجور والظلم في حقبة الدكتاتورية، برمضاء المحاصصة والفساد والزبائنية والمحسوبية وسوء الإدارة والرثاثة والتسيّب في حقبة الديمقراطية القادمة على جناح الغزو الخارجي وشعوذات "تغيير النظام".
تطالعنا على صفحات هذا الكتاب المحاصصة وما تركته وتتركه من آثار تشويهية على نسيج الاجتماع السياسي العراقي كمفردة في صلب هواجس المؤلف واهتماماته. وإذ تنبجس، في هذا الصدد، قتامة مشهد السياسة الخارجية العراقية على مستوى الأداء من خلال ما ورد في الكتاب، يخرج القارئ بصورة تظللها غلالة من التشاؤم والسوداوية عن مستقبل هذه السياسة.
*مستشار سياسي أقدم سابق في الأمم المتحدة

 

 


Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP