كل دولة تواجه تحديات متعددة تستوجب الحدّ منها لضمان استقرارها السياسي والأمني، والعراق ليس استثناءً من هذه المعادلة، لا سيّما إذا ما أشرنا إلى أبرز التحديات التي تعيق عادةً مشاريع التقدّم والتحديث على المستويين القريب والبعيد، سواء على صعيد الدولة أو المجتمع.
ونعني هنا التحديات المرتبطة بتبعات وتداعيات البنية الاجتماعية العراقية، الغنية بهوياتها الثقافية والمجتمعية المتعددة والمتشعبة، وما تطرحه هذه التعددية من صعوبات على صعيد بناء هوية وطنية جامعة ومقبولة.
وقد يكمن جزء من هذا التحدي في أنّ هذه الهويات الثقافية المختلفة تحتاج دوماً إلى الاجتماع والإجماع، أو التواصل والتفاعل، أو التضامن والتلاحم، فضلاً عن مقتضيات الانفتاح والتجديد، كي تتحوّل في نهاية المطاف إلى هويات راقية، متصالحة، ومُثمرة.
نقول هذا، في حين تكمن المشكلة ـ وهنا بيت القصيد ـ في أننا نعيش في مجتمعات شبه تقليدية لا تتفاعل بسهولة مع منجزات الحداثة الفكرية والثقافية ومفاهيمها، إلا في سياقات انتقائية جزئية تُكرَّس فيها علاقات الهيمنة داخلياً، كما شهدنا ذلك بوضوح حين تبنّى المجتمع السياسي العراقي، وأنظمته الحاكمة، أيديولوجيات قومية واشتراكية متطرفة لم تُستثمر في شيء سوى في فرض هوية وطنية قسرية وبلا روح، رافقها قمع ومصادرة للتعددية الثقافية الموجودة في المجتمع، بدلاً من التفاعل السليم والمرن معها.
وهذا ما يُفسّر، أساساً، تعثّر ارتقاء مجتمعاتنا وهوياتها الثقافية المتنوعة إلى مستوى الوطنية والمواطنة والمجتمع المدني، ولا يزال هذا التعثر قائماً إلى اليوم.
بعبارة أخرى، فإن هذا التحدي ينبع، في جوهره، من مصدرين اثنين: الأول، فشل الدولة في إحداث تغيير ديمقراطي تدريجي في بنية المجتمع؛ والثاني، تمسّك الهويات الثقافية المُشكِّلة لهذه البنية بولاءاتها الفرعية، كنتيجة حتمية لذلك الفشل.
وقد يرتبط هذا التحدي، في جانب منه، بانغلاق البنية المجتمعية أمام روح الحداثة ومناخ العصر، وما يترتب على ذلك من تهديد لبناء هوية وطنية جامعة في العراق. ويظهر هذا الانغلاق في اللجوء إلى مبررات الخصوصية والهوية والأصالة، لا سيّما عبر سرديات مؤدلجة ـ طائفية أو عرقية أو قبلية ـ تُعطّل التفاعل مع الآخر وتمنع الاندماج الثقافي.
وهذا ما يؤدي، بطبيعة الحال، إلى نتائج سلبية أُخرى، أهمها التفاوت الحاد في أنماط العيش والعلاقات والتعاملات داخل المجتمع. خصوصاً إذا ما سلّمنا، مع المفكر داريوش شايغان (1935-2018م)، بقوله: “نحن، سكان هذا الكوكب، لسنا معاصرين بعضنا لبعض، فهناك من يعيش في القرون الوسطى اليوم، وهناك من يعيش في القرن الثامن عشر، وآخرون يعيشون في القرن الحادي والعشرين!».
ويمكن القول إن هذه المقولة تنطبق إلى حدّ كبير على ما آلت إليه بنية المجتمع العراقي خلال قرن من الزمان، حيث باتت هذه البنية تشكل اليوم تحدياً واضحاً أمام فرص تواصل وتلاحم هوياتنا الثقافية من جهة، وإمكانية بلورتها ضمن إطار هوية وطنية جامعة من جهة أخرى.
نقلا عن جريدة الصباح.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP