كركوك، المدينة التي تتربع على ضفاف الزمن، لا تزال تنبض بحياةٍ موغلة في القِدم، شاهدةً على توالي الحضارات، حاملةً في طيّاتها ذاكرة الشعوب وملامح العصور. قلعتها الشامخة ليست مجرد صرحٍ حجري، بل تجسيدٌ لروحٍ ما انطفأت، وهويةٍ تعمّقت مع كل مرحلة، حتى غدت رمزًا للأصالة والتنوّع والخلود.
لقد اقترح أن تُلقَّب كركوك بـ”المدينة الأزلية”، وليس في ذلك ترفٌ لغوي أو تعبيرٌ شاعري، بل هو استحقاقٌ تاريخي وثقافي تؤيده الشواهد وتوثّقه المخطوطات، وترويه الحجارة، ويؤكده وجدان المدينة، وجغرافيتها، وناسها.
لماذا تستحق كركوك هذا اللقب؟
لأنها مهدُ الحضارات، وقلبُ التاريخ النابض، ومرآةُ العراق المصغّرة؛ تحتضن تنوّعه القومي والديني والمذهبي كما تحتضن الحدائق باقات الأزهار. هي عاصمة الثقافة وبستان الفكر، مدينةٌ جمعت بين الانفتاح على العالم والوفاء لأصالتها، بين الطموح الحضاري وجذورٍ لا تموت.
فالمدينة الأزلية ليست مجرد لقب، بل رؤية جامعة، تنهض من عمق التاريخ، وتتحرك برشاقة في الحاضر، وتمتد بثقة نحو المستقبل.
جذور اللقب: لماذا “الأزلية”؟
كركوك من أقدم المدن المأهولة على وجه الأرض. بجوارها تقع قرية استيطانية تعود إلى أكثر من سبعة آلاف سنة قبل الميلاد، مما يجعلها من أقدم المراكز الحضرية المستمرة في التاريخ الإنساني. وتشير الأدلة الأثرية إلى استقرارها منذ العصر الحجري الحديث، حيث ورد ذكرها في الكتابات السومرية والآشورية، كما تناولها المؤرخون الإغريق مثل كسينوفون وهيرودوتس وغيرهم كأحد أعمدة الشرق القديم.
وإذا قورنت بأقرانها من المدن القديمة كأربيل، وممفيس، ودمشق، وحلب، فإنها لا تقل عنها قِدمًا، بل تتفوق بميزة الاستمرارية الحضرية على ذات الموقع دون انقطاع أو انزياح، وهي خصوصية نادرة في سجل المدن التاريخية.
الهوية العمرانية والروحية:-
قلعة كركوك، الجوهرة التي تتوسط المدينة، ليست مجرد معلم أثري، بل مركز حضري متكامل احتوى البيوت والمساجد والمدارس والأسواق. والاسوار.إنها مرشحة بعد اعادة تأهيلها من جديد لتكون رمزًا عالميًا للمدينة المستدامة، إذ تمتزج فيها البنية التاريخية مع الإلهام المعماري المعاصر.
يمر بمحاذاتها نهر “خاصة صو”، الذي وفر الحياة للمدينة، وإلى جانبها تتوهّج النار الأزلية؛ اللهب المتصاعد من جوف الأرض منذ قرون، شاهدةً على كنوزها، ومانحةً لها هويتها الخاصة، وكأنها تُعلن للبعيد أنها كركوك، مدينة الخلود.
بوتقة التنوّع:-
كركوك فضاء ثقافي وإنساني فريد؛ احتضنت المسلمين والمسيحيين واليهود، وجمعت العرب والتركمان والكرد والآشوريين والسريان في نسيج اجتماعي وثقافي متفاعل. هي مدينة تُمارس تراثها حيًا، لا تحفظه في المتاحف فقط، بل تراه نابضًا في الأسواق، في العمارة، في اللهجات، وفي الوجوه.
كركوك في الذاكرة العراقية:-
ليست كركوك ظلًا لبغداد، ولا صدىً للموصل، ولا مرآةً للسليمانية واربيل، بل جسرٌ يربطها جميعًا. مدينة تتقاطع فيها اللغات وتتجاور فيها الطوائف، مدينة تمثّل العراق بروحه المتنوّعة وتعدده الثقافي، مدينةٌ توحِّد ولا تفرّق، تعبر من التاريخ إلى الحاضر، ومن القلعة إلى السوق، ومن التراث الشعبي إلى العالم الرقمي.
رؤية للمستقبل:-
لقب “المدينة الأزلية” لا يُراد له أن يبقى في إطار الوجدان فقط، بل أن يتحوّل إلى مشروع وطني، ثقافي وسياحي متكامل. يمكن تحقيق ذلك عبر:
• متحف كركوك – المدينة الأزلية: يوثّق المراحل التاريخية للمدينة، ويعرضها بأسلوب تفاعلي يمزج بين المادي والرقمي.
• مهرجان سنوي يحمل اسم “المدينة الأزلية”: يحتفي بتراث كركوك، فنونها، مطبخها، موسيقاها، وذاكرتها الشفوية.
• علامة تجارية ثقافية: “كركوك – المدينة الأزلية”، تُستخدم في الترويج للسياحة الثقافية والاقتصاد الإبداعي، وتعيد تقديم المدينة للعالم بهويتها الحيّة والخلّاقة.
كركوك: من الماضي الحي إلى المستقبل الواعد:-
تسمية كركوك بـ”المدينة الأزلية” ليست مجرد تكريمٍ للماضي، بل استثمارٌ في المستقبل. إنها دعوة لإعادة اكتشاف هذه المدينة التي لم تكتفِ بأن تكون شاهدةً على الحضارات، بل شاركت في صنعها.
كركوك، المدينة التي علّمت الحجارة أن تنطق، والتاريخ أن يستمر، ما زالت تنبض بإلهامها، وتدعونا لأن نراها لا كما كانت فحسب، بل كما ينبغي أن تكون .وهي دعوة مخلصة تنبع من قلب الكاتب (دكتور زين) للاهتمام بهذه المدينة وتطويرها بما يليق بتاريخها المجيد.
Copyright © 2020 Kirkuk Tv All Rights Reserved Designed And Developed By AVESTA GROUP